تمثل الحوسبة السحابية خطوة متقدمة نحو تطوير البنية التحتية الرقمية التي تم بناؤها وفقاً لمعايير شركات الحوسبة السحابية الضخمة. بحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ساهم ظهور منصات البث عبر الإنترنت (OTT) في تعزيز توسع شركات الحوسبة السحابية الضخمة. وقد برزت شركات عملاقة مثل أمازون (AWS) ومايكروسوفت أزور وغوغل كلاود لتوفير الحوسبة عند الطلب، والتخزين، والشبكات، والذاكرة، لتصبح بذلك جوهر الحوسبة السحابية الحديثة.
أصبح تبني التقنيات السحابية أكثر ضرورة مع التطور السريع لبيئة الأعمال. لقد تجاوزنا مرحلة اعتماد السحابة كميزة فحسب، بل أصبحت الآن حاجة ملحة للشركات في مسيرتها نحو تحقيق التقدم وتلبية متطلبات الاقتصاد الرقمي الحديث. تتبنى الشركات حول العالم التقنيات السحابية بسرعة. ومن المتوقع أن يصل سوق الحوسبة السحابية حول العالم، الذي بلغت قيمته 626.46 مليار دولار في عام 2023، إلى مليار دولار بحلول عام 2028. ووفقًا لشركة الأبحاث والاستشارات غارتنر، من المتوقع أن تصبح الحوسبة السحابية أسلوب الحوسبة السائد مع السنوات القادمة. تعكس معدلات تبني الحوسبة السحابية في المنطقة العربية التوجه العالمي نحو هذه التقنية كما تجذب دول مجلس التعاون الخليجي الشركات لتنبي الحوسبة السحابية والابتكار في هذا المجال على أراضيها.
المنطقة العربية تقود ريادة السحابة
يرتبط اعتماد الحوسبة السحابية بعوامل عدّة منها التحول نحو نهج العمل عن بُعد، امكانية تحسين البيانات، الحاجة إلى تعزيز الأمن السيبراني وبناء سلاسل توريد أكثر كفاءة ومرونة حيث توفر الحوسبة السحابية الرؤية الفورية اللازمة لتحسين ادارة البيانات، خفض التكاليف والحد من المخاطر. ومع تزايد اعتماد الشركات على الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات، توفر الحوسبة السحابية كل المقومات لمواكبة التحول الرقمي. تتجه الشركات في الشرق الاوسط نحو الحوسبة السحابية حيث تخطط 68% منها لنقل معظم عملياتها إلى السحابة خلال العامين المقبلين. تُحدث الحلول السحابية تحولًا كبيراً في القطاعات لا سيّما في الخدمات المالية، على سبيل المثال، حيث تُسرّع المعاملات وتُحسّن تجربة العملاء. كما يُعدّ توسع التجارة الإلكترونية الذي أشعلته جائحة كوفيد-19 عاملًا مؤثرًا، حيث نما سوق التجارة الإلكترونية في المملكة العربية السعودية بنسبة تقارب 60% في عام 2020، ومن المتوقع أن يصل حجمه إلى 50 مليار ريال سعودي خلال العام الجاري.
تُظهر الدول العربية رغبتها الشديدة في اعتماد الحوسبة السحابية ومن المتوقع أن يصل الإنفاق السنوي على خدمات الحوسبة السحابية.
ومع ذلك عوامل عدّة تدفع نحو اعتماد الحلول السحابية في المنطقة ومنها مبادرات التحول الوطني وتطوير المشاريع الضخمة. حددت دول الشرق الأوسط رؤيتها الوطنية للتحول نحو السحابة، مثل رؤية الممكلة 2030 ومئوية الإمارات 2071. وقد حددت هذه الرؤية الاستراتيجية والطموحة أهدافًا واضحة للتقدم التكنولوجي. تلعب الخدمات السحابية دورًا محوريًا في هذه المبادرات، إذ تساعد المؤسسات على تبسيط العمليات التشغيلية، وتحسين الكفاءة، وتحفيز الابتكار. بالإضافة إلى ذلك، تُعدّ المنطقة رائدة في تطوير المدن الذكية والمعرفية ضمن مشاريعها العملاقة، مستفيدةً من تقنية الحوسبة السحابية لدعم إنشاء البنية التحتية الذكية. ويشمل ذلك مبادرات تهدف إلى تحسين الخدمات العامة، وتطبيق إدارة مرورية ذكية، وتعزيز الاتصال المعزز.
تُعد أيضاً رقمنة الخدمات في جميع أنحاء المنطقة من العوامل الأساسية خلف تطوير الحوسبة في المنطقة، حيث تعمل الحكومات والمؤسسات في قطاعات رئيسية، لا سيما الرعاية الصحية والتعليم، على الرقمنة لتحسين الخدمات الذكية وتطويرها. على سبيل المثال، استهدفت المملكة العربية السعودية رقمنة 70% من أنشطة المرضى بحلول عام 2030 لتقليل الاعتماد البشري وأتمتة العديد من خدمات الرعاية الصحية.
عامل آخر وهو تشريعات توطين البيانات. تُعدّ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من بين دول المنطقة التي سنّت تشريعات تُلزم بتخزين فئات مُعينة من البيانات داخل حدودها الوطنية. تُساعد مراكز البيانات المحلية، المُزوّدة بالسحابة، الشركات على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالامتثال. ويستفيد مُزوّدو خدمات السحابة الضخمة (الكبار) من هذا التطور بإطلاق مراكز بيانات سحابية في جميع أنحاء المنطقة. في السياق، أطلقت غوغل كلاود منطقتها في المملكة العربية السعودية عام 2020 بينما افتتحت مايكروسوفت منطقة مراكز البيانات السحابية في قطر عام 2022، وأعلنت في عام 2023 عن نيتها الاستثمار في منطقة مراكز بيانات سحابية في المملكة العربية السعودية.
تُظهر الدول العربية رغبتها الشديدة في اعتماد الحوسبة السحابية ومن المتوقع أن يصل الإنفاق السنوي على خدمات الحوسبة السحابية العامة إلى 3.9 مليارات دولار في عام 2027، بمعدل نمو سنوي مركب متوقع قدره 23.4%، وفقًا لبحث أجرته شركة البيانات الدولية (IDC). وقد أنشأت المملكة العربية السعودية منظومة تنظيمية لمزودي خدمات الحوسبة السحابية لدعم هذا النمو، ويوجد حاليًا 29 مزودًا لخدمات الحوسبة السحابية مسجلين لدى الحكومة (هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية) في المملكة. يشهد السوق السعودي نمواً ملحوظاً في السياسة السحابية لتقليل التكاليف وتسريع الخدمة.
تشكّل مشاريع الحوسبة السحابية في الامارات استراتيجية وطنية تهدف إلى تعزيز الخصوصية والأمن الرقمي والسيطرة على البيانات. ومن أهم الأسباب التي تدفع الامارات إلى اعتماد الحوسبة السحابية:
- حماية البيانات والبنية التحتية الرقمية من الهجمات السيبرانية.
- تعزيز استقلالية الشركات والحدّ من تدخل الشركات الخارجية في الادارة.
- دعم الاستثمارات في القطاع الرقمي والمساهمة بتطور القطاعات من الرعاية الصحية إلى النقل إلى القطاع المالي.
- خفص نسبة الأعطال في الأعمال والخدمات الناتجة عن مزودين خارجيين
تتبنى شركات وجهات حكومية عدّة الحوسبة السحابية على مستوى الامارات ومنها هيئة تنظيم الاتصالاات والحكومة الرقمية التي تُعد أول جهة حكومية تقدم خدمات سحابية في المنطقة. ومن الشركات الاماراتية أيضاً نذكر شركة دو التي أطلقت بدورها خدمات الحوسبة السحابية إلى جانب تقنية الذكاء الاصطناعي الذي يدعم التحول الرقمي على أشكاله. ومؤخراً نظّمت "دو" فعالية بعنوان "اطلاق امكانات الحوسبة السحابية السيادية للحكومة الحديثة" مركزةً على مسيرة التحول الرقمي في الدولة. هذا وتوفر دو البنية التحتية المطلوبة للسحابة المدعومة من الذكاء الاصطناعي.
تتوسع مشاريع الحوسبة السحابية لتمتد إلى قسم كبير من دول الخليج والمنطقة. وكانت قطر من بين الدول التي اختبرت السحابة وتطمح الى التوسع في هذا المجال أيضاً. تؤكد وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات القطرية التزامها بتطوير مراكز السحابة في الدولة وتوفير بيئة مناسبة لهذه التقنية وجذب الاستثمارات في مجال التكنولوجيا الرقمية ودعم الابتكار في قطر. وتُثبت شركات عالمية مكانتها في قطر مثال على ذلك شركة غوغل كلاود التي افتتحت منطقتها السحابية في الدوحة بهدف تلبية الطلب المتزايد على الخدمات السحابية في منطقة الشرق الاوسط. كما تلعب شركات السحابة دوراً مهماً في قطر حيث ستشهد الدولة نمواً ملحوظاً في الخدمات السحابية مع السنوات المقبلة. اضافة إلى ذلك، تعمل وزارة الاتصالات والتكنولوجيا في قطر على دعم التحول الرقمي في الشركات من خلال تبني الخدمات السحابية وتوسيع نطاق التكنولوجيا وحلولها على المستوى المحلي بما يتماشى مع رؤية قطر 2030. تنعش المنطقة السحابية القطرية الاقتصاد المحلي اذ أنها قد تساهم بالناتج المحلي بين عام 2023 و2030 بنحو 18 مليار دولار. كما تعزز وجود فرص عمل جديدة للمهارات الرقمية الشابة.
تتوسع مشاريع الحوسبة السحابية لتمتد إلى قسم كبير من دول الخليج والمنطقة.
مرحلة جديدة من النمو والتطور
رغم سرعة تبني السحابة، إلا أن هذه ليست سوى البداية - فنحن ندخل المرحلة التالية والحيوية من تبني السحابة في الشرق الأوسط، حيث تبدأ المؤسسات في إيجاد طرق أكثر ابتكارًا لاستخدام تقنية الحوسبة السحابية. وفقاً للأبحاث حوالي 90% من الشركات في المنطقة قد تجاوزت استراتيجية نقل التطبيقات الحالية إلى السحابة، وتعمل الآن على تحديث تطبيقاتها و/أو ابتكار حلول جديدة قائمة على السحابة.
تتمتع هذه المرحلة بإمكانيات كبيرة لخلق قيمة مضافة وتحقيق عائد أسرع على الاستثمار، حيث تعمل الاتجاهات الناشئة على تشكيل مستقبل تبني السحابة:
اعتماد السحابة الهجينة ومتعددة السحابات: بدأت المؤسسات تنويع محفظة خدماتها السحابية، بالاعتماد على مزودين متعددين، ودمج البنية التحتية المحلية مع السحابات العامة والخاصة. هذا يتيح لها تحسين الأداء والأمان بطريقة فعالة من حيث التكلفة.
الحوسبة السحابية الصناعية: ينحسر نهج الحوسبة السحابية الشامل ليحل محله نهج أكثر تخصيصًا، مع ظهور منظومات رقمية متخصصة تلبي الاحتياجات الفريدة والمتطلبات التنظيمية للقطاعات، بما في ذلك الرعاية الصحية والمالية والتصنيع.
حوسبة الحافة: التي تنقل تخزين ومعالجة الحاسوب إلى حافة الشبكة، أقرب ما يمكن إلى مصادر البيانات - ستلعب دورًا محوريًا في مستقبل تبني الحوسبة السحابية مع انتشار إنترنت الأشياء (IoT). ستدمج منصات الحوسبة السحابية قدرات الحوسبة الطرفية بشكل متزايد، مما يُطلق العنان لكامل إمكانات تطبيقات إنترنت الأشياء.
الحوسبة الكمية في السحابة: نتوقع أن يقدم مزودو الخدمات السحابية خدمات الحوسبة الكمومية في المستقبل القريب، مما يُتيح الوصول إلى هذه التقنية المتطورة للجميع. سيمنح دمج الحوسبة الكمومية في السحابة الشركات قدرةً حاسوبيةً غير مسبوقة.
الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي على نطاق واسع: يقدم مزودو الخدمات السحابية بالفعل خدمات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، إلا أن قابلية التوسع وسهولة الوصول إلى منصات السحابة تجعلها مثالية لنشر أحمال عمل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي واسعة النطاق، مما سيُحدث نقلة نوعية في عمليات الأعمال.
البلوك تشين كخدمة: ستُسهّل المنصات السحابية نشر وإدارة شبكات البلوك تشين، مما يسمح للشركات بتطبيق حلول لامركزية آمنة وشفافة.
ميتافيرس والتوأمة الرقمية: يُبشر التقاء تقنيتي ميتافيرس والتوأم الرقمي، المدعومتين بالحوسبة السحابية، بإمكانية تغيير طريقة تفاعلنا مع البيئات الافتراضية ومحاكاة المساحات المادية في العالم الرقمي.
تشير هذه الاتجاهات إلى تحول جذري في كيفية استخدام الشركات في جميع أنحاء الشرق الأوسط تكنولوجيا وحلول الحوسبة السحابية لتعزيز النمو والحفاظ على القدرة التنافسية في عالم سريع التغير. وتَعِد الحوسبة السحابية بإعادة تشكيل القطاعات وإعادة تعريف إمكانيات العصر الرقمي. ستُحدد رحلتنا نحو الحوسبة السحابية بدقة التقدم التكنولوجي والتنظيم والمتطلبات الاستراتيجية، لكن المستقبل يَعِد بأن يكون مليئًا بالابتكار وقابلية التوسع والمرونة.